الجزء الرابع من الفصل التاسع عشر رواية الرقيقة والبربري
كان الصمت ما زال يملأ الغرفة، وصوت أنفاس نور بين أحضان رامي يبعث الطمأنينة، ولكن رأفت لم يكن قادرًا على كتمان حضوره الثقيل... تقدّم خطوة وقال بنبرة هادئة لكنها حاسمة
– أنا هنام جنب نور النهارده… جهزتلك أوضة في الجناح التاني، ارتاح فيها يا رامي.
لم تمر الكلمات مرورًا عاديًا، بل كأنها خنجر بارد دخل بين الاثنين.. لحظة واحدة فقط… وكانت نور قد تشبثت بقميص رامي، قبضت بأصابعها عليه بقوة، كما لو أن أحدهم سيخطفه منها بالقوة.. عيناها كانت ممتلئة برجاء صامت، وخوف طفولي، نظرة لا تُفسّر إلا بجملة واحدة: "أرجوك متمشيش ."
نظر رامي إلى يدها الممسكة به، ثم إلى عينيها… كل شيء فيها كان يستنجد به دون أن تتكلم.. رفع عينيه ببطء نحو رأفت، وتبدّل وجهه من الحنان إلى ابتسامة هادئة ساخرة، ثم قال ببرود متعمد
– لأ… معلش، أنا هنام مع مراتي.
كان يقولها بنبرة خبيثة واضحة، كأنه يتعمّد إثارة غيرته. انفعل وجه رأفت فجأة، وانعقد حاجباه بغضب مكبوت، لكنه لم يتكلّم.
فأكمل رامي، وهو يرفع حاجبيه وكأن لا شيء مقصود
– هننام عادي يعني… زي ما حضرتك هتنام، وكل الناس هتنام… نوم يعني مش أكتر.
احمرّ وجه نور من الخجل الشديد، وخبّأت وجهها في صدر رامي، فأحاطها بذراعيه، وابتسم بمكر وهو ينظر إلى رأفت. ثم التفت له وقال بلهجة أقرب للأمر
– اطلع برا يا رأفت.
كانت صدمة الكلمة كافية لتجمّد رأفت في مكانه. عينيه اتّسعتا من الغضب، وجبهته انكمشت كأنها ستنفجر، فانتبه رامي وخفّف نبرته سريعًا بتحمحمات مصطنعة
– برا يا عمي…
ثم عاد ليصحح جملته أكثر وهذه المرة بخوف حقيقي من تحولات ملامح رافت المرعبة
_ أحم، تصبح على خير يا عمي! نشوف حضرتك بكرة إن شاء الله.
ظل رأفت واقفًا مكانه، كأن روحه ترتجف من الغيظ، لا يعرف إن كان يغار على بنته، أم من رامي نفسه الذي يتصرّف بهذه الأريحية والامتلاك.
رامي، وكأنه يصب الوقود على النار، عاد لبروده
– اقفل الباب وراك كويس…!
أطبق رأفت على مقبض الباب بقوة، نظر إلى رامي نظرة قاتلة قبل أن يغلقه خلفه بصوت مكتوم. في تلك اللحظة، أدار رامي رأسه نحو نور، وابتسم بهدوء عميق، ثم تمدّد بجانبها واحتواها من جديد، كأن العالم كله لا يساوي حضنها.
أصابعه مرّت في شعرها بلطفٍ، يفرق الخصلات ببطء وكأنه يزرع سكونًا في قلبها.. ضمها إليه أكثر، وأسند خدّه على رأسها، وهو يستنشق دفئها وكأنه يتنفسها..
كانت نور ساكنة تمامًا، كأن أنفاسها لم تعد ملكها، بل تتبع أنفاسه... شعرت في حضنه كأنها تعود لطفولتها… لكن بأمان لم تعرفه من قبل.. قلبها يطرق صدرها، ليس خوفًا، بل احتياجًا… كان رامي هو الوطن، والمأوى، والطمأنينة المفقودة لسنوات ومن النظرة الأولى وقعت فيه ! في طريقته وطريقته الطفولية في التصرف التي لاحظتها من اللحظات الأولى للقائهما ..
أما هو، فكان يشعر بشيء مختلف تمامًا.. كانت بين ذراعيه، نعم… لكن قلبه كان يعيد حسابات عمره كله.. كيف يمكن له أن يسمح لها بالغياب عنه يومًا؟ كيف لم يفهمها من البداية؟ كيف لم يسمع ألمها الذي لم تُفصِح عنه؟
ضمّها بقوة، كأنه يعتذر، كأنه يتوسّل لفرصة جديدة.
وبعد صمت طويل، همس بصوتٍ دافئ لكن فيه ألم عميق
– مشيتي ليه يا نور؟
سؤاله لم يكن عن الخروج من البيت فقط … بل عن الرحيل كله.. لماذا ابتعدت؟ لماذا تركته تائهاً، غاضبًا، بلا فهم، بلا تفسير؟
لم تجيبه وظلّ رامي يحتضنها بصمت، كأن حضنه أصبح مخبأها الوحيد من كل شيء.. لم يكن هناك سوى أنفاسهما المتقاطعة
ثم عاد عليها السؤال برقة
– مشيتي ليه يا نور؟
ترددت… وبان التوهان في عينيها، كأنها لا تعرف أين كانت، ولا كيف تعود.. صوتها خرج واهنًا، متلجلجًا، تحمله الحيرة وتثقله الذكريات
– كنت… كنت عاوزة أروح الكافيه اللي بنروحه أنا وإنت… بس… معرفتش أرجع.
قالتها وكأنها كانت تائهة في مدينة غريبة لا تعرف عنها شيئًا وضلت الطريق... عينيها تائهة، خائفة، تطلب غفرانًا منه ، وتبحث عن دفء في حضنه لا تريده أن يغادرها ثانية...
احتواها رامي في حضنه كأنها طفلته، يضمها بقلبه قبل ذراعيه، بحنية ما كان يعرفها في نفسه من قبل. شعر بطهارتها وسط كل قبح الدنيا، وبلحظة صمت، قال فجأة
– باباكي قالي كل حاجة… حكالي اللي حصل… زمان… وانتي صغيرة.
كأن الزمن توقف…
جسد نور ارتعش فجأة، ثم تجمّد بالكامل… لا صوت، لا حركة… كأن الدم توقف عن الجريان في عروقها، وكأن كل شيء في الدنيا أصبح بارداً فجأة. حتى رامي شعر بتغير ملمسها… كأنها تحولت إلى تمثال هشّ، على وشك الانهيار.
رفعت وجهها بصعوبة، بملامح مذهولة، وعينيها ممتلئة بذعر طفلة تتوقع أن تُرفَض، أن تُنبَذ، أن تُعاقَب على شيء لم تختره.
همست بصوت مبحوح، مكسور
– بتقرف مني دلوقتي؟
قال بسرعة وحسم
_ مش ذنبك يا نور .
وجد في عيونها حسرة وخجل .. بل عار ! أغمض عينيه للحظة، كأن سيفًا اخترق قلبه، ثم فتحهما وهو يبتسم ابتسامة حانية هازئة، كأنه يضحك على ظنها قبل أن يرفع ذقنها برقة ويقول
_ أنا بقرف منهم هما… مش منك إنتي.
إنتي… أنضف، وأغلى، وأطهر من العالم كله.
تدفقت دموعها على خديها دون صوت، كانت تبكي بحزنٍ قديم لم يُسمَح له يومًا أن يُعبّر عن نفسه، بعار شعرت به يلاحقها طوال العمر وهي البريئة التي لم يكن لها أي دخل فيما حدث لها ..
دفنت وجهها في رقبته، كأنها تختبئ من الدنيا كلها، وكأنها تختبئ فيه..
شعر بدموعها تسيل على جلده، فضمّها إليه بقوة، دون كلمات… كانت الدموع تتكلم الآن.
وبهمسٍ اختلط بالبكاء، سألها برفق
– حابة تحكي دلوقتي؟
هزّت رأسها ببطء، وهي ما تزال في حضنه، نافضة الرفض برقة وارتعاشة، كأن الحديث مؤلم جدًا… أكبر من طاقتها الآن.
فهمها دون أن تُكمل، وطبطب على ظهرها بحنانٍ أبويّ لا يشبهه، وهو يحتضنها بكل قوته، كأنّه يحاول يداوي كل جُرح قديم بحضنه، كأنه يعاهدها دون كلام أنه لن يهرب من مسؤوليتها .. أنه يراها .. يراها بحق !
وأغمض عينيه هو الآخر، وسالت دمعة على خده لحقها سيل من الدموع … دموع وجه .. وليست ندم !
طال الليل عليهما .. لكن عيونهما غفت بعد وقت من البكاء الصامت وهو يحتضنها فقط بين زراعيه ...
أما رأفت فجلس في غرفته ينظر من النافذة للقمر .. يتمنى لو يأتي النهار بأمل جديد ينير حياتهم ...
لو لقيت التفاعل على رسايل التلجرام هنزل الفصل بكرة فورا ..