الجزء الثالث من الفصل الواحد والعشرون رواية الرقيقة والبربري
توقفت سيارة رامي أمام العوامة الكبيرة ذات الأنوار الذهبية المتلألئة، ونزل منها أولًا، ثم التف سريعًا إلى باب نور وفتحه لها.
مد يده إليها وهو يبتسم بنعومة وقال
_ يلا يا قمر… وصلنا.
نظرت إليه بدهشة طفولية لم تستطع إخفاءها، ثم التفتت بعينيها الفضوليتين إلى العوامة العالية المضاءة بأناقة، وقالت
_ احنا هنقعد هنا ؟
ضحك وهو يهز رأسه مؤكدًا
_ أيوة… هنقضي فيها أحلى يومين
عقدت يديها أمام صدرها وهي تفتح فمها قليلًا في دهشة حقيقية
مسك رامي يدها وساعدها في دخول العوامة .. وما ان فتح الباب حتى أسرعت بخطوات خفيفة كفراشة تطير على الأرض، ودخلت العوامة تتفقدها بعينيها الواسعتين وهي تلهث من فرط حماسها… حتى وصلت إلى البلكونة الواسعة المطلة مباشرة على النيل.. نظرت لتجد النيل يسري من تحت قدميها يفصلها عنه خشب العوامة ..
خرجت إليها بخطوات مسرعة وكأنها تخشى أن تستيقظ من حلم جميل… وقفت أمام السور الحديدي المزخرف، وأمسكت به براحة يديها، ورفعت رأسها قليلًا لتتنفس هواء النيل المختلط بأصوات ضحكات الناس من المراكب المارة والأغاني التي تصدح هنا وهناك… أغمضت عينيها للحظة وكأنها تشرب كل شيء دفعة واحدة...
_ ياااه… يا رامي… إيه الجمال دا! هو فيه كدة ؟
قالتها بصوت مبحوح من شدة انبهارها وهي تفتح عينيها بسرعة لتتأكد أن هذا الجمال حقيقي وليس حلمًا، فوجدته واقفًا خلفها مباشرة بخطواته الهادئة الرائقة ونظراته الدافئة تراقبها وكأنه يراها للمرة الأولى...
اقترب منها حتى لم يعد بينهما مسافة، مد ذراعيه ليطوق خصرها من الخلف برفق، وأسند ذقنه على كتفها، وهمس في أذنها بنبرة منخفضة عميقة
_ مبسوطة يا قلب رامي؟
وضعت يديها فوق ذراعيه اللذين يحتويانها، وأمالت رأسها قليلًا على رأسه وهي تبتسم ابتسامة واسعة نقية وقالت
_ مبسوطة أوي… حاسة إني… إني فراشة.. طايرة كده.
ضحك بخفوت وهو يغمض عينيه، وشم رائحة شعرها الذي نثره الهواء في حنان، ثم قال
_ وأنا مش عايزك غير كده… فراشة… خفيفة… مبسوطة… وطايرة.
ظلت صامتة لدقائق طويلة وهي تشاهد أضواء النيل المتراقصة على صفحته، بينما هو ضمها بقوة أكبر، وكأن قلبه أقسم ألا يتركها تضيع منه يومًا بعد الآن.
_ بباكي حجزلنا في شيراتون .. بس أنا فكست بصراحة
_ أحسن حاجة عملت يا روحي ..
ردت نور وهي تنظر للنيل الواسع في سعادة وراحة بالغة ..
_ أنت تعرف ان دي أول مرة في حياتي .. أبقى قريبة من النيل كدة ! .. تخيل ؟
ابتسم رامي .. لكنها ابتسامة توارى خلفها الحزن وأعتدل ليجعلها تنظر له ثم مسك وجهها بين كفيه وقال
_ أنا هخليكي تعيشي كل حاجة معشتهاش .. كل إللي اتمنيتي في يوم تعيشيه ومعشتهوش .. أنا هعيشهولك ! كل إللي حلمتي بيه ومتحققش أنا هحققه .. حتى إللي مجاش على بالك أنا هعملك أحسن منه ... انتي بس احلمي يا نور .
لم تصدق ما تسمعه والذي من شدة حلاوته جعلها شعرت بالدموع تداهمها وظهر على وجهها التأثر الشديد ليضحك في أسف
_ لأ بقى متندمنيش أنا ما صدقت قولت كلمتين حلوين
رمت نفسها بحضنه وهي تضحك على مظهره ودفنت رأسها في صدره فضمها بطوله الفارع
_ بحبك أوي ..
قالت فهدهدها بين زراعيه .. تاركًا نسيم النيل يبرد ما في قلبه .. ينعشه .. يشعره بالراحة التي حُرم منها طوال هذه الفترة الماضية ...
-__________________________
بعد ساعات .. باتت أضواء القاهرة تتلألأ في صمت ساحر… جلس رامي على الأرض الخشبية للبلكونة التي صُممت خصيصًا لتكون واحة راحة، مفروشة بسجاد ناعم وخدديات ملونة، وأضاء حولهما المصابيح الصغيرة الدافئة التي تتراقص أضواؤها بفعل نسمة الفجر الباردة.
كانت نور مستلقية بين ذراعيه، رأسها على صدره، وذراعيه يحيطان بها بقوة وطمأنينة، بينما هي تغمض عينيها أحيانًا وتفتحهما أحيانًا أخرى لتتأكد أن هذا الدفء حقيقة.
كان الهواء يداعب ستائر البلكونة البيضاء الطويلة، فتطير من حولهما وتلفهما معًا كستار من حرير خفيف يحميهما من العالم… كان رامي يمسك بكتاب صغير ويقرأ لها بصوته العميق الدافئ
_ كان يا ما كان… في بنت صغيرة اسمها نور … كانت عايشة في قرية جميلة وسط جبال سويسرا… وكل يوم كانت بتصحى الصبح تجري وسط المزرعة وتلعب مع الحيوانات… وتضحك… ضحكة بريئة… الدنيا كلها كانت بتفرح بيها…
ابتسمت نور في هدوء وهي مغرقة في نعاسها وقالت بصوت خافت
_ نور هههه … كنت بحبها أوي وأنا صغيرة … بابي كان علطول بيحكيها ليا !
ضحك بخفوت وهو يضمها إليه أكثر وقال
_ عارف ماهو غششني … عشان كده قولتلك القصة دي… عاوزك ترجعي طفلة… طفلة فرحانة وبس ..
فهمت .. فهمت أنه يريد تعويضها عن كل شيئ مرت به لكنها للحظة فكرت .. وما ذنبه !؟ .. رفعت رأسها قليلًا ونظرت إليه بعينين نصف مغمضتين وقالت
_ وأنت… بتحب إيه يا رامي؟
أغلق الكتاب ووضعه جانبًا، ثم رفع يده ليمسح على شعرها ببطء وهمس في أذنها
_ بحب أشوفك مبسوطة… دي أكتر حاجة بحبها في حياتي.
نظرت له قليلاً ولم تعلق، فقط أسندت رأسها إلى صدره من جديد، وأغمضت عينيها وهي تشعر أن قلبه يخبرها بأكثر مما قال .. تعلم تمامًا ما يريد .. يحب أشياء معينة .. وهي حتى وان لم تكن تعرف أهذا حب حقيقي أم لا .. لكن عقلها بدأ يفكر في تنفيذ ما يحب لإسعاده كما يحاول هو اسعادها ... حركت رأسها على صدره مستمتعة بملمسه ، كانت تسمع دقات قلبه وكأنها لحن أمان لا ينتهي، بينما هو أغلق عينيه وأحاطها بذراعيه أكثر، يدفئها من برد الفجر وكأنها طفلة صغيرة بين يديه…
كان كل شيء صامتًا إلا أصوات النيل المتهادية، وضحكات المراكب البعيدة، ونسيم الفجر الذي حمل لهما سلامًا لا يوصف....
_ نور .. حبيبي !
كانت نامت بالفعل .. ومن يقاوم رائحة النيلة وهواه ؟ لا أحد ! ..
_ همممم
همهمت نور بين نومها بينما يحاول رامي أن يعتدل ويحملها حتى يضعها فوق الفراش ويدثرها جيدًا ..
لم تقاوم نور حنانه وتركت نفسها له يتصرف فيها كما يشاء ...
وضعها رامي فوق الفراش في رفق ثم وضع الغطاء فوقها .. تمدد بجانبها وأخذ بنظر لوجهها البريئ و يفكر .. ماذا سيفعل لإنقاذ نور من جحيم ماضيها !؟
___________________________