" الفصل الثاني والعشرون بعد المائة من رواية عشق أولاد الزوات ١٢٢ "
_______
هيام كانت تقف في أحد المحلات، تتأمل الفساتين المُرصعة بالألوان البراقة، ولكنها لم تكن ترى سوى ضباب. كانت تبتسم لأصدقائها وتبدو مهتمة بكل تفصيلة صغيرة، لكن في داخلها كانت تشعر وكأنها تحمل ثقلًا كبيرًا لا تعرف مصدره. كلما اقترب يوم زفافها من فواز، زاد شعورها بالغضب والضيق، شعور بالندم كان يغمرها لكنها رفضت الاعتراف به.
بينما كانت تقف بجانب رف الأحذية، انحنت صديقتها نحوها، متحمسة بفستان زفاف مميز، وقالت
_هيام، شوفي ده! هتكوني ملكة فيه!
رغم التفاف صديقاتها عليها كالسابق منذ أن عرفوا أنها ستعود زوجة لفواز ومعاملتهم لها أصبحت أفضل عادت كما كانت في السابق بل أفضل بكثير لأنها هكذا أثبتت لهم أنها تؤثر فيه وأنه يحبها ولا يستطيع التخلي عنها
رغم كل هذا التفاعل لكن هيام لم ترد. كان الغضب يعتصرها، ولكن ليس من فستان أو حذاء، بل من قرارها، من زواجها المرتقب الذي لم يُشعرها بالسعادة. قلبها كان مثقلًا بندم لا تجرؤ على مواجهته. شعرت بأنها تائهة في دوامة من المشاعر المختلطة، متذبذبة بين رغبتها في المضي قدمًا وإحساسها بأنها تخون نفسها.
كان هذا الندم يطاردها، يلاحقها في كل زاوية، يغمزها كلما حاولت أن تبتسم. نظرت إلى الفستان في يد صديقتها، ابتسمت بابتسامة مُصطنعة، ثم رفعت رأسها بغرور مصطنع وقالت
_ده مش ليا، مش مناسب لمقامي...
كانت الكلمات تخرج منها بحدة، تحاول أن تغطي بها على اضطرابها الداخلي، لكن ملامحها كانت تعكس صراعها الخفي.
تابعت التسوق مع صديقاتها، تتظاهر بالسعادة وتُبالغ في اختيار الأشياء الفخمة، تتصرف كأنها ملكة، لكنها لم تستطع إخفاء ذلك الصوت الصغير بداخلها الذي يصرخ بأنها تستحق أفضل من زواج بلا حب، زواج فرضته على نفسها عنادًا وغرورًا. هيام كانت تسعى للهروب من مواجهة حقيقة مشاعرها، محاولة بكل جهد أن تظل صامدة أمام تلك العاصفة التي تهدد بإغراقها، ولكن كل تصرف وكل كلمة كانت تفضحها أكثر.
في أعماقها، كانت تعلم أن هذا الغضب الذي يلتهمها هو صدى للندم الذي لا تستطيع مواجهته، ندما على قرار تسرعت في اتخاذه، قرار زواجها من فواز. ومع ذلك، رفضت أن تظهر ضعفها، رفضت أن تعترف بأنها ربما تكون قد أخطأت، واستمرت في ارتداء قناع الغرور والكبرياء، محاولة إخفاء تلك المشاعر التي تمزقها من الداخل.
_____
في اليوم التالي، كان الجو مشحونًا بالتوتر. نزلت هيام وفواز معًا من السيارة أمام متجر البدلات الفاخر، المكان الذي اختاره زين الدين لوضع اللمسات الأخيرة على بدلة زفاف فواز. الجو كان بارداً كبرودة الحديث بينهما، والانسجام غائب كما هو الحال منذ بداية ترتيبات الزواج.
دخل فواز إلى المتجر بخطوات مترددة، يسبق هيام التي كانت تتظاهر بالثقة والكبرياء، إلا أن عينيها كانت تفضحان عدم ارتياحها. لم يكن بينهما أي حديث، فقط نظرات عابرة تنتهي بسرعة، وكأن كل منهما يخشى أن يسأل الآخر عما يجول في خاطره.
في الداخل، قابلهم الخياط بابتسامة ترحيب ودعاهما للتقدم نحو غرفة القياس. وقف فواز أمام المرآة، بينما بدأ الخياط يضبط الياقة والأكمام. هيام كانت تقف بجانبه، لكن بعيدة كل البعد عن المشاركة الفعلية، كانت تبدو وكأنها في عالم آخر، تنظر إلى فواز من حين لآخر ثم تنقل بصرها بعيدًا وكأن النظر إليه يثقل عليها.
فواز، من ناحيته، حاول أن يبادر بالكلام لكسر الصمت. قال بنبرة محايدة حتى لا يشك الخياط في هذا الثنائي الغريب والبارد
_إيه رأيك؟ البدلة تمام؟
لكنها ردت بجفاف
_آه، كويسة.
لم تبذل أي جهد في تلطيف نبرة صوتها أو إظهار أي اهتمام.
بقي الاثنان واقفين، كلٌ منهم مشغول بتفكيره، يطيلان النظر في المرآة ولكن كل منهما كان يرى صورة مختلفة تمامًا. فواز يرى صورة رجل يستعد ليومه الكبير ، لكنه في الحقيقة يشعر بإنه يوم إعدامه
. أما هيام، فكانت ترى صورة امرأة تحاول بكل جهد إقناع نفسها بأن ما تفعله هو الصواب، رغم أن كل خلية في جسدها تصرخ بأنها مخطئة.
بينما كان الخياط ينهي عمله، قال لهم
_مبروك يا جماعة، خلاص كده البدلة بقت تمام.
لكن لا فواز ولا هيام ابتسما أو شعرا بالفرحة الحقيقية. خرجا من المتجر كما دخلا، بخطوات باردة ونظرات خالية من الحياة، وكأن كل منهما يحمل عبئاً ثقيلاً على كتفيه، غير قادر على البوح بما يشعر به، وكأن الصمت أصبح اللغة الوحيدة المشتركة بينهما.
______
بينما كانا يجلسان في السيارة في طريق العودة، الجو ثقيل والمشاعر مكبوتة بينهما. هيام كانت تنظر من النافذة، تتأمل الشوارع التي تمر بجانبهم، وصوتها هادئ لكنها تحاول أن تبقي نفسها متماسكة. فجأة، قرر كسر الصمت وقال
_إنتِ عارفة إن كل دا مش حقيقي؟ يعني إحنا بنضحك على مين؟ على نفسنا ولا على الناس؟
هيام التفتت له بعينيها ثم بنبرة مُستفزة بعض الشيء، سألته مباشرة
_لسة بتحب رنيم؟
لم يجب فواز، اكتفى بالصمت، وكان واضحًا أنه لا يريد الخوض في الموضوع. هيام ابتسمت بسخرية لطن فواز داهمها بسؤاله
_ وانتي بتحبي ذكي لسة ؟
احتدت عينيها وهو يواجهها بهذا السؤال لتقشم شفتيها ثم هبت فيه قائلة بصوت رغم قوته إلا أنه متوتر
_ شغل المشاعر والكلام التافه دا بتاعك إنت. أنا خلاص، مش عايزة أعرف عن رنيم حاجة .. و زي ما أنا مش بحب ذكي، إنت كمان لازم تنسى... ولازم تحترمني واللي عملته فيا زمان لازم تصلحه وتردلي كرامتي أدام كل إللي دوست عليا ادامهم
لكن قلبها كان يعاندها، ففي داخلها كانت تعلم أنها تكذب. لم تكن تملك الجرأة لمواجهة حقيقة مشاعرها تجاه ذكي، وبدلًا من الاعتراف، حاولت التهرب..
نظر لها فواز في شفقة فهو عاشق يعلم تمامًا عيون العاشقين .. ولكنه كان يعلم أنه هو وهيام من نفس الطينة .. حبهم صعب ومعقد .. يكاد يكون جنون وليس حبًا ! لكنه قد قرر أنه لن يحرجها مرة أخرى ولو كان دوائها أن يتزوجها ويعيد كرامتها أمام الناس فسيفعل لأنه قد خسر رنيم للأبد وجرحها وجرح نفسه... عليه على الأقل إصلاح ما افسده في حياة هيام ..
كسرت صمتها ثم نظرت إلى فواز بنبرة أمر، كأنها تحاول أن تسيطر على زمام الأمور
_افرد وشك في الفرح، ابتسم، واضحك كأننا فرحانين بجد، وعرف كل الناس إننا مبسوطين.
كلماتها كانت تخرج بسرعة واندفاع، وكأنها تحاول إقناع نفسها قبل أن تقنع فواز. كانت تتحدث من وراء قلبها، وكل كلمة كانت كالسهم يعيدها إلى مشاعرها الحقيقية التي تحاول إخفاءها.
في داخلها، كانت هيام تشعر بالضعف، والشوق الذي ينهش قلبها. كانت تحاول بكل قوتها أن تدفن تلك المشاعر، لكنها بدأت تشعر أن قلبها يكاد ينكسر من شدة الألم. نظرت إلى فواز مرة أخرى، وكأنها تبحث عن أي علامة تدل على أنه يشعر بما تشعر به، لكن وجهيهما ظلا متباعدين، كل منهما غارق في ألمه الخاص...
كانت اللحظة ثقيلة، والألم حاضر بينهما، لكنهما اختارا الصمت، كلٌ يخفي وراء كلماته الحادة حقيقة ضعفه واشتياقه لما كان يجب أن يكون.
_
فوزية كانت تجلس في صالة المنزل، تضع يديها على ركبتيها بحزم، ونظرة القلق ترتسم على ملامح وجهها. لم تستطع أن تتحمل فكرة زواج ابنها فواز من هيام، رغم أنها ابنة أختها التي تحبها وتعزها. بالنسبة لفوزية، هذه الزيجة لا تتعدى كونها خطأً كبيرًا لا يجب أن يتم، فهي تعرف جيدًا مدى النفور بين فواز وهيام. كيف يمكن لشخصين لا يجمعهما سوى الكراهية والعداء أن يبنيا حياة معًا؟ ..
وقد تزوجوا من قبل ولم ينجح الأمر فلم تكرار الخطأ ومازال كلا منهما خارجا من تجربة أليمة تركتهم محطمين ويظهر للأعمى مدى حزنهم ..
فوزية حاولت مرات عديدة أن تتحدث مع زوجها زين الدين، لكنها كانت تعلم في كل مرة أن الحديث معه أشبه بمواجهة جدار صلب ..
لقد صمم زين الدين أن يحضر لفرح كبير وضخم وكأنه يزوج فواز وهيام لأول مرة ! شعرت فوزية بالمغالاة وهو ينشر خبر الزواج هنا وهناك ويدعوا الكثير وكأنه يحتفل بانتصاره في المعركة ! معركة خاضها وحده وانتصر فيها وحده ! ..
حاولت الحديث معه واستمر هو في تجاهلها وإحراجها أمام الناس .. حتى صمتت قليلاً خوفاً على مشاعرها منه .. لكنها، في هذه اللحظة، لم تستطع الصمت أكثر وقد بقت أيام قليلة جدا على الزفاف .. اقتربت منه وهو يجلس على كرسيه الفخم، وبدأت الحديث بنبرة هادئة ولكن مصممة
_ زين الدين، الجوازة دي مش هتنجح. فواز مش طايق هيام وهي مش عايزة تتجوزه، ليه بنصر عليهم؟ دا زواج لازم يكون فيه حب وتفاهم، مش نكد وغصب.
زين الدين رفع عينيه من الجريدة التي كان يقرأها، نظر إليها باستهزاء واضح، وقال بنبرة متعالية
_إنتي دايمًا بتتدخلي في حاجات مالكيش فيها. فواز إبني وهيتجوز هيام وخلاص، دا قرار اتاخد وما فيش رجعة فيه... جواهم بعد يومين افرحيلهم بس مترقصيش في الفرح عشان بغير !
استهزاءه بها وابتسامته الفوزية أشعلت نيرانها !
فوزية حاولت أن تسيطر على غضبها، لكنها لم تستطع منع نفسها من الرد
_انت عارف كويس إن دا مش صح، فواز مش هيكون سعيد وهيام كمان مش هتكون مبسوطة. إحنا بنجبرهم على حاجة ضد إرادتهم.
زين الدين قاطعها بحدة، وصوته ارتفع بنبرة مليئة بالسخرية
_يا سلام! وإحنا من إمتى بنسيب العيال يقرروا هما ؟ فواز محتاج واحدة زي هيام، وأنا عارف مصلحته أكتر منه. كفاية تعيشي في عالم الأحلام بتاعك!
فوزية شعرت بالقسوة في كلماته، وكأنها تلقت صفعة على وجهها. لم تكن تتوقع هذا الرفض والاستهزاء. كانت تحاول بكل ما لديها من حنان الأم أن تحمي ابنها من هذا الزواج الذي ترى فيه نهاية سيئة، لكنها وجدت نفسها تواجه قسوة زين الدين الذي لا يرى في حديثها سوى تدخل غير مرغوب فيه.
حاولت أن تبرر، أن توضح وجهة نظرها بحزن
_ زين، هيام زي بنتي، وأنا خايفة عليها زي ما أنا خايفة على فواز. الاتنين مش مرتاحين لبعض وجربوا مرة وفشلوا وطالعين من تجارب تعباهم ، ليه نكمل في الغلط؟
زين الدين أطلق ضحكة ساخرة، وكأن ما تقوله لا يحمل أي وزن، ثم قال ببرود
_ بلاش الكلام العاطفي دا ، الجواز دا هيحصل غصب عن الكل. وبعدين هيام بنت أختك، المفروض تكوني مبسوطة إنها هتتجوز واحد زي فواز
صمتت فوزية، ورغم الألم الذي كان يمزقها من الداخل، أدركت أنه لا جدوى من الجدال مع زين الدين. نظرت إلى الأرض، محاولة أن تخفي دمعة حاولت الهروب من عينها. شعرت بالعجز أمام عناده، وبالحزن على ابنة أختها هيام وفواز وعلى الحالة الصعبة التي أوصلتهم إلى هذه النقطة ..
_نهاية الفصل >___
هنزل كمان فصل عشان الأسبوع الجاي مش هنزل خالص ❤️