الفصل التاسع والثمانون من رواية عشق أولاد الزوات
_____
في تلك الليلة الحالكة كروحه ، جلس فواز على ضفاف نهر النيل تحت السماء المليئة بالنجوم، ولكن حتى هذه النجوم لا تستطيع أن تضيء ظلام الحزن الذي يحيط به. النسيم البارد يلامس وجهه، لكنه لا يشعر بالبرودة؛ فهو غارق في بحر من الألم والخذلان. الظلام المحيط يعكس عمق الجرح الذي يعاني منه، وكأن الكون كله يشارك في حزنه العميق.
اكتشاف فواز عن خيانة زوجته كان بمثابة صدمة شديدة، فكل الذكريات التي كان يعتز بها وتفاصيل سنوات مضت، أصبحت الآن وكأنها كذبة كبيرة. كان يظن أن حبه لها كان متبادلًا، لكن الحقيقة المريرة كشفت له أنها كانت تحبه لماله، وليس لشخصه. هذا الاكتشاف حطم كل أحلامه، وتركه في حالة من الانهيار التام.
عقله توقف عن التفكير من شدة الألم؛ وكأن التفكير نفسه أصبح عبئًا لا يمكن تحمله. كل فكرة جديدة تتسلل إلى ذهنه تعود لتذكره بمدى الخداع الذي وقع فيه، مما يجعله يشعر وكأن قلبه يتحطم داخله. الألم يعصف بجسده، ويجعل مشاعره مجمدة، وكأنها تجمدت في لحظة الكشف المدمرة.
الكثير من الأدلة المتضاربة ، الكثير من الأحداث التي أرهقته .. لم يعد يعرف من يحبه ومن يكرهه .. من الصادق ومن الكاذب .. لم يعد يثق في أي شيئ من حوله
كلما حاول فواز ترتيب أفكاره أو استعادة هدوءه، يواجه جدارًا من الألم يفرض عليه الصمت. وكأن كل شيء حوله، حتى نهر النيل الذي ينساب بهدوء، أصبح شريكًا في صمته، معبرًا عن الحزن العميق الذي يعتريه. في تلك اللحظات، يتمنى فواز لو يستطيع أن يتجاهل الحقيقة المؤلمة، لكنه يشعر بالخذلان في كل خلية من جسده، بينما يواصل الجلوس في صمت، ينتظر الفجر ليعيد له الأمل...
وبينما هو يتأمل انعكاس الأضواء على المياة.. تلك الأصوات التي ملأت الكورنيش... العائلات المتناثرة هنا وهناك وتلك الروائح التي تبث الحياة في الروح الميتة التي انبعثت من الطهاه في الشارع.. نظر لطفل صغير شارف عليه ليبيع له إحدى الأشياء .
_ خدهم كلهم .. هات وردة واحدة بس ..
قالها فواز بينما أعطى للولد عدة ورقات مالية .. ثم نظر ليثابه .. أصابته غصة في حلقه ليشعر أن همومه قد تكون صغيرة أمام هموم ومشاكل الآخرين ...
_ كل دول ليا !
هتف الولد الذي صُدم مما أخذه ليهز فواز رأسه له ثم دفعه الفضول ليسأل
_ فين أبوك ؟
أجاب الطفل _ مات
شعر فواز بالحزن ليعود ويسأل
_ وأمك ؟
هز الطفل كتفيه مجيبًا
_ ماتت !
ارتسم الحزن والشفقة على وجه فواز ليتدخل السائق ساخرًا
_ تلاقيهم عايشين ياباشا ومش بعيد هما اللي يكونوا بيسرحوه
نظر له فواز في ضيق ليتوتر السائق ويهتف الطفل في صدق امتزج بالحزن
_ لأ والله ماتو ياباشا
قال الولد في براءة ليربت فواز في حنان غريب فوق رأسه ، شعر بالشفقة الشديدة عليه ،وعاد ليسأل
_ وأنت عايش مع مين ؟
_ عايش مع ستي وأختي الصغيرة
_ أختك أد إيه ؟
_ أهي هناك أهي
أشار الطفل على طفلة قصيرة ممتلئة الجسد بخدود منتفخة ترتدي عباءة زهرية اللون ناسبتها رغم أنها مهترئة .. تحمل عصاه ملفوف عليها عدة أكياس من غزل البنات تتدلل على الجميع حتى يشتروا منها ..
وقف الزمن بفواز وهو يناظرها .. يستحيل ما يراه ! إنها هي ! رنيم الصغيرة ..
احمرت عينيه وذُهلت ملامحه وارتفعت دقات قلبه تضرب صدره بشده .. شعر أنه يواجه صعوبة في اتخاذ أنفاسه لكن ما يراه ليس بقليل ..
نادى أخيها عليها مرة أخرى فأتت تجري في سعادة .. رغم حالتها المذرية ووضعها الذي يدعوها للبكاء ليل نهار إلا أنها طفلة سعيدة تجري وتمرح لتذكره مرة أخرى بها .. بمعذبته الصغيرة ! التي لم تكن تفارق حضنه وقد رباها على يديه ..
_ عايز إيه
هتفت في أخيها بينما تنفخ خديها وفواز في حالة دهشة يتأمل كل ما فيها كالمسحور .. وقعت عيني الطفلة على من يقف مع أخيها لتقول الطفلة وقد لمعت عينيها
_ عرفت المز دا منين يا ولا
أخرجته كلماتها المشاغبة من غفوته وقد تفاجئ فواز مما قالت وضحك السائق لترتسم ابتسامة فوق وجه فواز بعدما استوعب ما قالت دون إرادته .. فتلك التي لم تتعدى ركبتيه تغازله .. تماما كما كانت تفعل رنيم التي كانت في الخامسة من عمرها عندما قررت الزواج به !
مدت الطفلة يديها لفواز لتسلم عليه في جرأة ، لينظر ليدها الصغيرة الممدودة نحوه ثم مد يده يصفاحها لتقول ..
_ إسمك إيه؟
_ فواز
_ فواز!
نطقت الطفلة اسمه بشكل صحيح على عكس رنيم التي كانت تطلق عليه اسم فوز .. ليحاول إخراج نفسه من جحيم الذكريات ناظرًا للسائق
_ هاتله لبس هو وأخته
نظرت الطفلة لأخيها ثم راحت لتقف بجانب فواز والتصقت فيه لتأمر أخيها
_ روح أنت وأنا هقعد هنا
وضع فواز يده فوق وجهه يداريه من الخجل والإبتسامة العريضة امتدت فوق شفتيه لا يصدق ما يسمع .. إنها طفلة تحاول الإيقاع به .. ارتفعت ضحكات السائق مرة أخرى بينما ينغزها اخوها في خصرها
_ لمي نفسك يابت
لكن الطفلة لم تبالي واقتربت من جسد فواز تشمه لتغمض عينيها قائلة
_ الله ريحتك حلوة أوي ، أنا عايزة من الريحة دي
هنا هربت قهقهة من بين شفتيه بينما يأمر السائق
_ هاتلها من الريحة دي
حاول فواز أن يعدل لها خصلات شعرها المتناثرة ثم سأل بعدما رسمت تلك الطفلة الإبتسامة فوق وجهه
_ عندك كام سنة ؟
_ ست سنين ..
تقريبآ نفس العمر .. ابتلع فواز ما في حلقه .. حاول ألا تأخذه الذكريات أكثر من ذلك ..
اقترب السائق ليلمس جسد الطفلة فهلع فواز يحيل بينه وبين الطفلة الصغير قائلاً في قوة
_ بتعمل إيه ؟
أجاب السائق _ هشوفها كام شبر يا باشا
فهم الأمر وتراجع فواز وسلم الأمر كله للسائق فهو يبدو أنه لا يعرف أي شيئ عن الأطفال .. لتعود وتجتمع الدموع في عيونه ! .. لقد شارف على الخامسة والثلاثين ولم يحظى حتى الآن بطفل .. مسكين كيف لفايز أخيه الأصغر أن يحظي بالأطفال وفوزي بالطبع سيلحقه .. ليظل هو وحيدًا متخبطًا ليس له ذرية ولا نسل ..
ذهب السائق ليجلب الملابس وعدة أشياء أخرى قد طلبها فواز منه أن يحضرها .. عاد السائق والسيارة مليئة بالأكياس لكنه لم يكن كافي في نظر فواز .. وقد اكتسب فواز ثقة الأطفال واخذ الطفلة واخيها داخل السيارة واخذهما ليشتريا كل ما طاب لهما .. لم يستطيع أن يمنع ضحكاته من الإنطلاق وهو يرى الضحكات السعيدة فوق وجوههم .. وكيف أنهم لم ينسوا جدتهم الكبيرة واشتروا لها عدة اشياء .. لم يكن الأطفال يشتروا الكثير بل كانوا يشترون على استحياء لكن فواز كان قد يجلب لهم كل ما وقعت عليه عينيه وكأنه أراد أن يرحم حتى تنزل عليه رحمات ربه .. فبعد ما فعله .. أصبح يشك أنه يستحق الرحمة !
اوصلهما فواز إلى المنزل بعد التسوق .. وما إن وصلا حتى ارتمت الفتاة في حضنه تشكره
_ شكراا يا عمو فواز
ضمها فواز في حنان شديد .. وربت فوق شعرها .. ثم قبل جبتها وقال ونو يرفع الهاتف الجديد الذي اشتراه لهما
_ دا رقمي .. بتعرفي تقري ؟
هزت رأسها بالنفي ليقول لأخيها _بتعرف ؟
_ أيوة بعرف
_ اتصل بيا علطول .. ومتنزلوش .. كل ما تحتاجوا أي كلموني واناعلطول هتطمن عليكوا
قالها فواز في صدق ليشعر الفتى والذي كان يبلغ من العمر الثانية عشرة عاما .. بالامتنان والشعور انه يريد يبكي فسقطت دموعه .. ليمسحها له فواز ثم حضنه .. وودعهم .
تابعهم بعينيه ثم قال للسائق _ خلي بالك منهم ومش عاوز حد يهوب ناحيتهم .. هما من النهاردة تحت كفالتي ! تمام ؟
_ تمام يا باشا
أجاب السائق ثم انطلق ليرحل وعيون فواز تلتقط تلك العجوز التي تستند فوق عصام مذدوجة تخرج من البوابة القديمة لتطمئن على الأطفال ..ليشعر بالحزن على حالهم وبالسعادة أنه كان قادر على مساعدتهم
ما إن عاد فواز إلى البيت ونزل السائق حتى انهار في البكاء ، تلك الطفلة التي ذكرته برنيم .. بكلامها وجسدها الممتلئ وخفة ظلها معه .. شعر بالحنين والحزن يأكلان قلبه ..
لا يمكن لتلك الطفلة أن تخون .. لا يمكن لتلك التي احبته منذ أن كانت طفلة أن يكون حبها كذبًا .. لقد وعت عليه هو .. لقد اختارته هو .. لقد قررت أنها ستكون لها حتى وهي لا تعرف معنى أن تكون ملكًا لرجل ! .. يخبره قلبه أنها لا تخون .. أنها لا تستطيع جرحه ولا إيذاءه ... هل صدفة مقابلته لهذه الطفلة التي تشبهها جعلته يعيد التفكير في كل ما حدث .. هل تلك الصدفة أتت لتذكره ببراءة رنيم الحقيقية .. مسك رأسه من التيه .. يشعر بالصداع يداهمه وأن العديد من الأصوات تصرخ داخله .. لكن هناك صوته يخبره أن هذه الطفلة .. حبها صادق ولا تخون !
بعد عدة دقائق انتهى .. لا يصدق أنه أصبح يبكي كلما سنحت له الفرصة .. لكنه قد عزم على شيئ ما .. عله يفيده في حل معضلته ..
_______
دخل فواز المنزل بعيون حمراء ووجه شاحب من الإرهاق .. ليتفاجئ بوجود هيام في الصالون تحتسي القهوة مع والدته ليضيق صدره فهي آخر من يريد أن تراه في تلك الحالة العاثرة ...
استمع لما يقولون عن طريق الخطأ لتقول والدته
_ الف مبروك يا هيام
ردت هيام في ابتسامة واسعة وواثقة
_ الله يباركك فيكي يا خالتو
سألت فوزية _ الفرح امتى ؟
_ يوم 29
فرحت لها فوزية قائلة بينما تربت فوق يديها
_ ان شاء الله يا حبيبتي
دخل فواز وهو يراها تتزوج وسعيدة بينما هو فقد حياته وتقريبا عقله
_ مبروك يا هيام
اعتدلت هيام ووضعت ساق فوق الأخرى مجيبة
_ الله يبارك فيك
ثم ألحقت كلماتها بقولها
_ عقبالك !
نظر فواز لها .... تلك الفتاة لا تريد خيرًا أبدًا .. إنها لا تفوت فرصة حتى تضايقه فيها .. لكنه أصبح معتاد عليها وعلى ما تفعل بل ويتلذذ بتلك التصرفات !
_ متعرفيش فايز فين يا طنط فوزية ؟
دخلت غادة تمشي في توتر شديد وهاتفها مضاء ويبدو أنها كانت تعبث به كثيرآ... أو تحاول أن تحدث فايز وهو لا يجيب عليها !
_ طنط ! ... والله بقيتي بنت ناس
قالتها هيام في سخرية لتجيب عليها غادة في قوة
_ أنا بنت ناس طول عمري يا حبيبتي يا حبيبتى
تابع فواز المشهد بعينيه فقط .. لا يملك القوة للتدخل وحتى لو يملكها فلن يتسخدمها للتدخل بين مشادة كلامية تدور بين هيام وغادة !
تدخلت فوزية تهدئ من الموقف لتقول
_ عيب يا هيام .. غادة مهما كانت واحدة من العيلة دلوقتي
لتتنهد هيام وتهتف
_ طب طالما بقيتي واحدة من العيلة .. فواجب عليكي تباركيلي
استغربت غادة سائلة _ أباركلك على إيه؟
_ على جوازي ..
_ و دا مين اللي أمه داعية عليه
لم يستطيع فواز منع نفسه من الإبتسام رغم كل ما فيه لتنظر له هيام في عنف فتوقف عن الابتسام خوفا من جنونها
لكن هيان وقفت من مكانها واقتربت من غادة وقالت في بطئ
_ من البشمهندس ذكي ..
شعرت غادة بالصدمة الشديدة .. شيئ كبير في كيانها قد اهتز وتزلزل .. لكنها لم تدفع هيام تغيظها لتقترب منها وتقول
_ البشمهندس ذكي اللي كان بيعيط يوم فرحي ؟
هزت هيام رأسها في خبث قائلة _ تؤ تؤ تؤ مكونتش أعرف انه فارق معاكي كدة .. مع انك اتجوزتي راجل متجوز عنده ولاد ومتعرفيش هو فين ولا بيعمل وعاوز يطلقك يا حرام
كاد الشرر أن ينطلق من عيون غادة لكنها لم تستطع أن تجد إجابة وظلت تتبادل النظرات الحارقة مع هيام
نادى فواز على والدته وترك الإثنتان يأكلان في بعضهما دون مبالاة منه
_ ماما لو سمحتي
نظرت له فوزية لتثقبها عيني ابنها التي لم تريحها ابدا
_ عايزك ... !
دق قلب فوزية .. شعرت بالأرض تميل من تحتها . فتلك النبرة وتلك النظرة لا تنم على راحة تأتي من وراءها ..
مامي بابي فين ؟ ليه مجاش لحد دلوقتي؟
سأل الأطفال بينما وقفوا في استقبال الفندق ينتظرونه أن يأتي حتى يتوجهوا للجزيرة .. لقد تأخر نصف ساعة كاملة .. بدأت ريم في التوتر وأسالة أطفالها لا تتوقف ..
أصبحت مضطرة أن تحدثه هي وهذا أكره ما على قلبها .. غاب هاتفه حتى رد .. وقبل حتى أن تتحدث قال فايز بصوت مشدود وحازم
_ معلش يا ريم روحوا أنتوا وأنا هاجي وراكوا ..
ثم أغلق الهاتف في وجهها .. لتقف ريم مصدومة من فعلته .. لتقبض على الهاتم في غضيظ وضيق
_ طبعا .. وأنا كنت مستنية إيه منك يا فايز !
عادت لأطفالها ليسألوها
_ بابي فين ؟
لم تجيب وجرت الحقيبة في يدها ثم مسكت يد رقية في قوة والاخوين كلا مسك يد الآخر لتقول رقية في تذمر وحزن
_ هنمشي وبابي مش موجود ؟
لم تعد ريم تتحمل الضغط لتجيب في صوت عالي مرتفع
_ بابي جاي ورانا .. يلا وبطلوا كل شوية تسألوا بابي بابي أنتوا مش عيال صغير !
شعر الأطفال بالخوف والحزن .. رأت ذلك بعيونهم لكنها لم تبالي وتوجهت للمطار حتى تلحق بالطائرة التي ستنقلهم إلى الجزيرة المصرية "tawila island" ..
____________
التعليقات شغالة واو والشيرررر .. والمفاجأة دي في السر كدة اللي قرء الكلام اللي في اخر الفصل اللي فات هو اللي عرفها بس وحلال عليكم الرواية 😅😈😈☠️