الجزء الرابع من الفصل السادس والعشرون رواية الرقيقة والبربري
كانت الشمسُ تتسلّل ببطءٍ من وراء الأفق النوبيّ، كأنّها تُقدِّم نفسها في موكبٍ من نورٍ إلى معبدٍ ينتظرها منذ آلاف السنين.
السكونُ يلفُّ المكان، فلا يُسمع سوى أنفاس النيل وهو يعانق شاطئه في حياء، والهواءُ يحمل عبقَ الصحراء الممتزج برائحة التاريخ القديم.
تبدو الصخور المحيطة كأنّها جنودٌ حجريّة تُحيّي ملكها، صامدة في صفوفٍ منذ عهدٍ لم يعد له عدد.
هناك، في قلب الجبل، ينتصب المعبد العظيم_ أبو سمبل _ كأنه معجزةٌ من صخرٍ وحلمٍ وخلود.
تتدلّى على واجهته أربعة تماثيل جبّارة لرمسيس الثاني، منحوتة في الجبل ذاته، وجوهها مرفوعة نحو السماء، تتحدّى الزمن، وتحدّق في الأبدية بثباتٍ لا يلين.
في عيونها صمتُ القوة، وفي شفاهها كبرياءٌ لا يفنى.
تبدأ اللحظة المنتظرة…
تسير الشمس بخُطا محسوبة، كأنّها تعرف طريقها منذ فجر الخليقة.
تتسلّل أشعتها من بوابة المعبد، تخترق الممر الطويل الذي يبلغ عمقه أكثر من ستين مترًا، تمرُّ بين الجدران الموشّاة بالنقوش التي تحكي عن الملوك والآلهة والحروب والانتصارات.
تتحرّك خطوط الضوء على النقوش كأنها تُحييها، تلمس أكتاف الجنود المنقوشين، وعجلات الحرب، وأجنحة الآلهة المرسومة، فتتوهّج كلها للحظةٍ خاطفة، كأنّها تستعيد أنفاس الحياة.
ثم تبلغ الشمسُ قدسَ الأقداس، أعمقَ نقطةٍ في قلب الجبل، حيث تجلس تماثيل رمسيس الثاني، آمون رع، رع حور آختي، وبتاح في صمتٍ مهيب.
وفي لحظةٍ أشبه بالمعجزة، تنيرُ الشمس وجوه الثلاثة الأوائل فقط، وتترك الرابع – بتاح، إله الظلام – غارقًا في سكونه الأبدي.
تغمرُ الأشعة وجه الملك رمسيس، فتبدو ملامحه كأنها تستفيق من الحجر، عينيه تبرقان للحظة، كأنّ النور جاء ليؤكّد وعد الخلود.
ينحبس أنفاس الحاضرين، ويخيَّل إليهم أن الزمن توقّف احترامًا للمشهد.
إنّه ليس شروقًا عاديًا، بل طقسٌ كونيٌّ يتكرّر مرتين في العام منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، شاهدٌ على عبقريةٍ هندسيةٍ وفلكيةٍ لم يعرف التاريخ لها مثيلًا.
وفي تلك اللحظة، حين يعانق النور وجه الملك، تسمعين صدى صوته يخرج من بين الجدران كهمسةٍ آتيةٍ من زمنٍ بعيد
"أنا ابن الشمس، أنا الذي سكن الضوء، وباسمي يستيقظ النهار."
تنسحبُ الأشعة ببطءٍ بعد دقائق، كأنّها تُودّع المعبد بوعدٍ مقدّسٍ أن تعود إليه من جديد،
ويعود الظلّ ليسكن المكان، لكن أثر النور يبقى في القلوب…
يبقى في الحجر، وفي كل ذرة رملٍ تشهد أن الإنسان هنا لم يكن مجرّد صانعٍ للحجر، بل خالقًا للعظمة ذاتها...
شاهد السياح المنظر مبهورين وبفاه مفتوح من الصدمة والعبقرية ! وكأنهم يحضرون مشهدًا لمخرجًا عظيم لم يُولد بعد !! ...
مشهد خطف الأنفاس خصوصًا نور التي ضمت جسدها لجسد رامي وفي عينيها العاشقة للفن وللتفاصيل .. لمعة أشعلها شعاع الشمس ...
ضمها رامي لصدره وهو أيضًا منبهر .. منبهر وفخور مما يرى .. حضارة تجعل صدور المصريين تنفجر من العظمة والدهاء ... تجعلهم يمشون حاملين الفخر فوق رؤوسهم وكأنه علامة .. ميزهم الله بها هم عن غيرهم ..
يقف وسط الوفد يشعر بنفخة صدر ضخمة لأنه مصر وهم لا .. لأنه ابن هذه الحضارة وهم لا ! ...
_ جدي دا !
هتف بها يغمز للسياح في ابتسامة ليبادوله الابتسامة دون أن يفهموا قبل أن يقول
_ my grandfather
ضحكت نور على طريقته وابتسم كثير من أعضاء الوفد ... ثم بدأ المرشد السياحي يحكي ويدلي بمعلوماته عن المعبد ... يتحدث بالإنجليزية ... يشرح لهم كل شيئ ... دون ترك أي تفصيلة
أما بالنسبة لرامي ونور فالكلام بالنسلة لهم كان يصل سلس وكأنه يتكلم بالللهجة المصرية ...
_ معبد أبو سمبل مش مجرد معبد أثري…
هو تحفة هندسية وفلكية وفنية بتجسد عبقرية المصري القديم لدرجة إن العالم كله وقف مبهور قدامه ...
بناه الملك رمسيس الثاني حوالي سنة 1264 قبل الميلاد.
محفور بالكامل في جبل من الحجر الرملي على الضفة الغربية لنهر النيل جنوب أسوان.
بيتكوّن من معبدين ....
المعبد الكبير لرمسيس نفسه وإله الشمس "رع حور آختي" والإله "آمون رع".
المعبد الصغير لزوجته الجميلة نفرتاري، وهو أول مرة في التاريخ يبني ملك معبد لزوجته بجانب معبده!
ثانيًا ... العجيبة الفلكية (تعامد الشمس)
من أكتر الحاجات المدهشة في المعبد دا ...
الشمس بتدخل من باب المعبد مرتين في السنة فقط
22 فبراير (يوم ميلاد رمسيس الثاني أو تتويجه على العرش).
22 أكتوبر (يوم انتصاره في معركة قادش).
في اللحظتين دول، الشمس بتتسلل لمسافة 60 متر جوه المعبد وبتنير وجوه ثلاثة تماثيل
رمسيس الثاني.
الإله رع حور آختي.
الإله آمون رع.
بينما الإله الرابع "بتاح" (إله الظلام) لا تصله أشعة الشمس أبدًا ! وده مقصود تمامًا!
دليل على دقة فلكية وهندسية مذهلة من أكتر من 3200 سنة!
تنهد المرشد الذي كان يقف للحظات بين كلماته وفقراته ليترك للسياح المجال للإستيعاب وتفقد المكان ... ثم عاد ليقول
المعبد مش مبني بالحجارة زي الأهرامات، لكنه محفور بالكامل داخل الجبل! وهنا بتظهر براعة البناء الفريد جدا من نوعه !
الواجهة العملاقة فيها أربعة تماثيل ضخمة لرمسيس الثاني، كل تمثال ارتفاعه حوالي 21 متر ...
كل حاجة متناسقة هندسيًا .. الممرات، الأعمدة، الغرف، وحتى الزوايا اللي بتمر فيها الشمس.
وهنا تنهد مرة أخرى ثم قال
_ دا غير براعة البناء المعاصر !!
لما اتبنى السد العالي، كان المعبد هيغرق في بحيرة ناصر.
سنة 1964، العالم كله شارك في عملية إنقاذ المعبد بقيادة اليونسكو.
تم تقطيعه إلى أكثر من 1000 قطعة حجرية (كل واحدة وزنها عشرات الأطنان)،
واتنقل كله على جبل قريب بفارق ارتفاع 65 متر عن مكانه الأصلي!
العملية دي تعتبر واحدة من أعظم عمليات الإنقاذ الأثري في التاريخ، واستمرت 4 سنين كاملة (1964–1968).
تأملوا النقاش التي حملت الفن المميز جدًا بألوانه الخالدة ليقول المرشد
الجدران مليانة بنقوش بتحكي انتصارات رمسيس الثاني، خصوصًا معركة قادش الشهيرة.
ثم أخذ يشرح لهم كل النقوش .. ورامي ونور ينظران ل
في فخر يزداد كلما فتح المرشد فمه ليدلي عليهم بالمزيد من المعلومات ...
الرسومات بتوضح الدروع، العربات الحربية، والجنود في مشاهد حية مليانة حركة.
النقوش كمان بتظهره وهو بيتعبد للآلهة، وبتبرز قوته وشجاعته كـ"إله حي"..
نظر المرشد لنور ورامي .. نور التي كانت تسير جنبًا لجنب مع رامي ويمسكان يد بعضهما وبالأحرى يحضنان بعضمها كل لحظة تقارب ... ليقول بحب وهو يبتسم لهما خصوصًا ما ان وصل للمعبد الصغير ..
أما دا .. فدا معجزة رومانسية خالدة ..
فهما نور ورامي على الفور .. هما في معبد الملكة العظيمة نفرتاري ! ... أشار المرشد للنقوش والنصوص وهو يقول
النصّ الهيروغليفي المنقوش على واجهة المعبد تُرجم إلى العربية بعدة صيغ، وأشهرها
"من أجل زوجتي التي تحبها الشمس، نفرتاري، التي من أجلها تشرق الشمس."
وأحيانًا يُترجم نصّه الكامل في النقوش كالآتي ...
"لقد بُني هذا المعبد العظيم لملكة مصر، الجميلة ذات الوجه الرقيق، نفرتاري، التي تشرق من أجلها الشمس."
العبارة دي مش مجازًا أدبيًا فقط، بل رمز للخلود العاطفي في الفن المصري القديم .. دا كان بناء معبدٍ مكرّس لامرأة بجوار معبد الملك نفسه أمرًا لم يفعله أي فرعون آخر قبله ..
ثم نظر لنور ورامي مرة أخرى ليجدهما يتبادلا نظرات العشق الخلص ... حتى أن طاقة حبهما قد وصلت للجميع .. طالت كل القلوب التي تأملتهم .. كيف لف رامي زراعه على كتف نور لتمسك يده من الجهه الأخرى بينما هي متلصقة به من الجنب ويتبادلان النظرات العاشقة دون خجل أو خوف ...
_ تصميم المعبد ومكانه ... ونصوصه ونقوشه .. جعل حبّ رمسيس لنفرتاري واحد من أعظم قصص العشق الملكي في التاريخ...
قالها بينما ينظر إليهم.. ليبتسم رامي وكأنه بوجه الحديث لنور .. يخبرها أنه يعشقها هو أيضًا !! ...
_ التماثيل في الواجهة بتظهر نفرتاري بنفس ارتفاع رمسيس تقريبًا، وده أمر نادر جدًا، لأن عادةً تماثيل النساء كانت أصغر ...لكن الفرعون المصري... أول من رفع مكانة المرأة في العالم كله ..
ثم أكمل المرشد في فخر طال جميع السياح وعلى رأسهم رامي ونور
_ في وقت كانت النساء فيه تباع عبيد وبتتقتل بدون سبب .. في نفس الوقت إللي كانوا فيه عار في العالم أجمع ... كان المصري بيبني معابد وتماثيل يمجد فيها امرأته ... وكانت ملكته بتحكم الامبراطورية المصرية العظيمة التي لم يشهد العالم لها مثيل ..
معالم الفخر زادت على الوجوه حتى غير المصريين ليتابع المرشد
_والمعبد مخصص للإلهة "حتحور"، إلهة الحب والموسيقى والجمال ...
تنهد في حب وهو يقص هذه المعلومات كل مرة على أي وفد وتمتم باحترام وابتسامة على محياة
_ رمزية جميلة جدًا لزوجته.
نظر رامي لنور وقد تأثر للغاية بالقصة .. رغم معرفته بالكثير عنها لكن سردها عليه بهذا الشكل جعله ينظر لنور وهو يقول في حب
_ انتي أحلى من نفرتاري ... لو كنتي عايشة في زمانهم ...كان زمان كل المعابد بإسمك .. كل المعابد فيها تماثيلك .. كل الحيطان على نقوش بصورتك ونصوص بإسمك ! ..
ابتسمت نور ابتسامة شديدة لمعت فيها الدموع وظهر فيها العشق الشديد بل التتيم ... كانت متيمة برامي وبنظراته وبهمسه الشاعري الشغوف ... مالت على كتفه ولم تجد كلماته تجيبه بها من شدة حلاوة كلماته .. ليضمها من خصرها بقوة... وأكمل المرشد
_معبد أبو سمبل ليه مكانة عالمية كبيرة جدا .. المعبد مُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو.
يُعتبر من عجائب العمارة القديمة.
بيتزار سنويًا في احتفال "تعامد الشمس"، بيحضره آلاف السياح والعلماء والفنانين من كل أنحاء العالم...
انتهى المرشد من جولته وبدأ جولة جديدة يشرح فيها أشياء جديدة مبهرة .. لكن رامي لم يكن مهتم كثيرًا .. فنور التي احمرت من الشمس أمام عينيه وقد أغرقها العرق حتى بدت له كالمرشميللوا المشوي .. ليشعر بالرغبة في التذوق
_ بقولك إيه ...
_ إيه يا روحي ؟
ردت برقة تلقائية ليقترب منها ويهمس لها
_ ما تيجي نروح نجيب حفيد جديد لجدودنا ؟
_ دا وقت كلامك دا يا رامي بس ..
استنكرت حديثه .. ليقترب أكثر يحاوطها بزراعه يحاول اقناعها
_ طب دول سياح وشوية ومروحين بلدهم .. إنما احنا في بلدنا .. أسوان هتروح مننا فين يعني ؟
_ رامي !!
حذرته بعينيها وبعيون بدى عليها الاقتراب من فقدان مقاومتها أمامه
_ ياروح قلب رامي يلا نرجع الفندق .. مشتاق .. تلاتة بالله العظيم مشتاق ..
مال عليها يخبرها بهذه الكلمات لتجد نفسها ليس لها حول ولا قوة بين زراعيه العميقة ... لتسير معه كالمغيبة وهو يرجع بها للفندق سريعًا في حماس شديد ..
نهاية الفصل القمر ❤️
انتظروا الفصل السابع والعشرون .. انضموا لقناة التلجرام rakafalef
__________________________
.png)