الجزء الأول من الفصل التاسع عشر رواية الرقيقة والبربري
نزل رامي الدرج بخطوات بطيئة، كأن ساقيه ترفضان حمله... لم يكن يمشي، بل ينسحب من البيت انسحاب المنهزم. كتفاه مائلتان كأنهما يحملان وزر سنوات مضطربة، وذقنه مائل نحو الأرض، بينما عيناه تغصّان بدموع متحجرة... لم تسقط، لكنها كانت على شفا الانهيار. نظراته كانت شاردة، لا ترى شيئًا، كأن كل شيء حوله تلاشى ما عدا الألم الذي يُطبق على قلبه بعد ما سمعه
حين بلغ بوابة البيت، لم ينظر خلفه. فتح باب السيارة بحركة آلية، وجلس خلف المقود وكأنما جلس في عالم آخر وعزلة جديدة. أسند رأسه إلى ظهر المقعد، وأغمض عينيه، ليكتشف أن الثورة داخله فاقت قدرته على السيطرة ..
ضغط بأطراف أصابعه على جبينه، وتنهد تنهيدة ثقيلة خرجت من صدره كأنها تحمل رماد قلب محترق.
_ يا رب... إزاي؟!
همسها، وهو يضغط على مقود السيارة بقبضة مرتعشة.
فكر في حياتهما... في تلك السنوات التي قضاها يحاول أن يقترب منها، أن يفهمها، أن يتجاوز الصمت بينها، والخوف في عينيها.. فكر في كل مرة حاول فيها أن يكون صبورًا، رحيمًا، لكنه كان للأسف يقسوا عليها في النهاية .. تذكر كل مرة أذاها وأطلق نيران غضبه عليها وهي التي لا تستحق إلا أن يبتسم في وجهها ... كان يظن أنها من النساء الباردة التي تتدلل .. بينما الحقيقة كانت أقسى من ذلك..
_ إزاي يانور ! إزاي حصلك كدة إزاي!
قالها، وصوته يختنق، والوجع يتكاثر في قلبه.
أدار المفتاح، وتحركت السيارة كأنها تئنّ معه، تقطع الطريق على إيقاع قلبه المضطرب.. وبينما يداه تقودان دون وعي، تسللت إلى ذاكرته لحظة، لحظة قديمة... أول مرة رآها فيها...
كان اليوم عاديًا... ملفات، أوراق، اجتماعات... لكنه حين دخل المصعد، كانت هي هناك ... واقفة على أحد الجانبين، تحمل حقيبة يد صغيرة، تنظر إلى المرآة في سقف المصعد بخجلٍ طفولي.
نور.
لم يكن يعرف اسمها وقتها ،صفتها ، ولم يكن يدري أنها ستغزو حياته..
تأملها .. أغلق عينيه وفتحهما كأنه يتأكد أنها ليست ملاكًا أو ما شابه .. ليست الملامح فقط بل الهالة التي أحاطت بها من اللحظة الأولى كانت واضحة للشمس تتجلى للجميع وخصوصًا هو .. الخبير في النساء .. أدرك في لحظتها أنها عملة نادرة من النساء .. نوع جديد لم يمُر عليه من قبل ! ..
دخل المصعد ووقف بجوارها ، يدور صمت خفيف بينهما، وفي اللحظة التي كاد فيها المصعد أن يُغلق ، ظهر كريم — الموظف الذي ينافسه على كل شيء — يركض لينضم إليهما..
مد رامي يده، وضغط على الزر بسرعة، فأغلق الباب في وجهه وهو يعطيه ابتسامة نصر امتزجت بالبرود لينظر له كريم في غيظ بينما يحاول الوصول للمصعد ، لكن الأوان قد فات والمصعد بدأ يتحرك..
انتبه ليسمعها تضحك بخفة، تحاول أن تكتم ضحكتها الخافتة بيدها..
التفت نحوها، ونظر لها نظرة خفيفة.. ابتسم ابتسامته المائلة ثم سأل بنبرة جذابة
– ضحكتِ ليه؟
قالها بنبرة هادئة... لكنها لم تستطع أن تجيبه وخجلها يغمر ملامحها.. ليشعر بمتعة شديدة فبجانبه امرأة تخجل ! فذاد العيار قائلاً
– كنت عايز أبقى معاكِ لوحدنا .
– ها؟!
نظرت له باندهاش طفولي، ثم نظرت للأرض، وهي تبتسم لينظر لها ويقول
– أنا آسف... بس عارفة؟ ضحكتك دي... أحلى حاجة حصلتلي النهارده.
سكتت... لكنها لم تُخفِ تلك الابتسامة الصغيرة التي تسكن في القلب قبل الشفاه... لأول مرة يضحك رامي بخفة أمام فتاة لم تفعل أي شيئ سوى الابتسام ...
تبدّلت الذكرى، فجأة، إلى صورة أخرى... عندما خرجا من المصعد
كان رامي يحمل ملفات في يده، متوجهًا لمكتب رأفت باشا، مدير الشركة... حين دخل من باب الطابق، وجدها تدخل معه فسارع بخطواته .. ليعرف .. ماذا تفعل في هذا الطابق !! .. ثم وجدها تقف في الرُّدهة أمام مكتب رئيس عمله تنظر إليه. كان يظنها مجرد فتاة تزور أحد الموظفين.. لكن ما الذي أتى بها إلى مكتب المدير !!
لم يكن يعرف أنها هي... "هي ابنة رئيس عمله ".
نظراتها كانت مُطوّلة، بريئة، متأملة.. وقفت تبتسم له في خجل ثم وضعت عينيها في الأرض...
دخل إلى المكتب، ألقى السلام، ثم فوجئ بأنها تدخل خلفه... تمشي بخفة إلى أن وصلت لرأفت، واحتضنته.
في تلك اللحظة، تجمّدت أوصاله.
_ آخر يوم ليا في الشركة النهاردة .
جسده كله برد... وبلع ريقه بصعوبة..
تابعوا الجزء الثاني من الفصل التاسع عشر