الجزء الثالث من الفصل التاسع عشر رواية الرقيقة والبربري
استفاقت نور ، ولم تكن تشعر بثقل النوم بقدر ما كانت تشعر بثقل الغياب.. أدارت رأسها ببطء، تبحث بعينيها المتعبة عن وجهٍ كانت تتمنّى أن تراه أول من يطلّ عليها. لكن لم يكن هناك سوى والدها، جالسًا على طرف السرير، يراقبها بصمتٍ مشوب بالقلق والحنان.
نظرت إليه بخيبةٍ ناعسة، كأن عينيها تعاتبه على أمرٍ لا ذنب له فيه. هو أبوها، ملاذها الأول، لكنه اليوم لم يكن ذلك الذي تطلبه روحها. كانت تنتظر قلبًا آخر، نظرة أخرى، ذراعًا أخرى.
أدرك رأفت نظرة الإحباط العابرة في عينيها، فانحنى قليلًا نحوها وقال بصوت دافئ
– إيه يا نور؟ مش عاوزاني؟
هزّت رأسها بخفة وابتسامة متعبة، ثم أمسكت يده بحنان وهمست برقة
– لأ يا بابي، طبعًا عوزاك يا حبيبي.
لكنها لم تستطع أن تلبث في هذا الدفء طويلاً… كانت هناك نار أخرى تستعر في قلبها، شوق دفين لم تقدر على كتمانه، فتردّدت للحظة، ثم سألت بصوت خافت، أشبه بنغمة موسيقى حزينة
– هو… رامي فين؟
تجمّد رأفت للحظة. لم يكن يجهل ما تشعر به ابنته، لكن الإجابة لم تكن سهلة، ولم يشأ أن يكذب، ولا أن يصدمها. فتح فمه ليقول شيئًا، لكن لم تسعفه الكلمات. وإذا بصوت مألوف يكسر سكون الغرفة ويبعث فيها الحياة
– نزلت لفيت على الدوا صيدلية صيدلية بجد مش لاقيه… بس حلفت، قولت والله ما أنا راجع إلا لما ألاقي دوا نور حياتي كلها !
كان رامي واقفًا عند باب الغرفة، ممسكًا بكيس دواء، وملامحه تعبّر عن إصرارٍ طفوليّ شجاع، كأنه يقاتل هذا العالم كله لأجلها... رامي أخذ قراره بالعودة !! ... لقد عاد لها ومن أجلها .. بدون دخول في أي تفاصيل حزينة ..
دخل بخفة، كأن حزنه اختبأ خلف ابتسامة خفيفة، وراح يتحدث بحيوية مصطنعة، وكأنه يريد أن يبعد كل ما هو ثقيل عن صدرها
– وفي الآخر ملقتش دواها غير في صيدلية صغيرة في حتة قديمة بعيدة .. … بس هو دا، أهو، عشان خاطرك إنتي بس ألف العالم كله مش مصر كلها ..
لم يقل شيئًا عن ما حدث، لم يعاتب، لم يسأل، فقط كان حاضرًا… وهذا وحده كان كافيًا.
نظر إليه رأفت، ثم نظر إلى ابنته، وفهم.. فهم أنه عاد لأجلها، وأنه لا يريد الحديث الآن، فقط يريد أن يكون قريبًا. فلم يتكلّم، ولم يعلّق، اكتفى بأن يقف ويترك المساحة لقلبيهما.
أما نور، فكانت تنظر إليه نظرة امتلأت بالشوق والامتنان معًا، كأنها طفلة رأت أمانها يعود إليها فجأة.. لم تحتج إلى كلمات، فحين اقترب منها وخلع جاكيت بدلته وأتى نحو السرير، كانت قد نهضت دون تفكير، وألقت نفسها بين ذراعيه كما لو أنها تبحث عن بيتها المفقود..
ضمّها إلى صدره بقوة، كأنه يحتضن ألمها وحزنها وخوفها، وهمس في أذنها بكلمات لا يسمعها إلا قلبها
– وحشتيني يا نور… أنا هنا يا روحي، يا حبيبة قلبي، يا عمري كله … ومش هسيبك تتوهي مني تاني …
ارتعش جسدها بين ذراعيه، لا خوفًا، بل راحة… أما رأفت، فكان واقفًا على بُعد خطوات، ينظر إليهما بصمت طويل. لم يشعر بالغيرة، بل شعر بالاطمئنان. لقد كبرَت ابنته… وصارت تعرف وحدها كيف تختار قلبها... لكنه عرف الآن لماذا تحب نور ابنته رامي لأنه مهما فعل .. يعود لها نادمًا يغدقها بالحنان والحب ! ..
ولكن لسانه المعسول هذا طويل ويحتاج قصه !! كيف يستطيع أن يسيطر عليها هكذا بمجرد كلمات .. شعر رأفت بغيرة أبوية على ابنته الوحيدة لكنه وقف ينظر لهما وتحمل .. بل شعر بسعادة دفينة لعودة رامي برغم كل ما عرفه .. بان ابنته تأمن له وترمي نفسها بين زراعيه بهذا الشوق .. شعر بأن الله يداوي قلبه برؤية ابنته مطمئنة سعيدة.
ضم رامي نور بشدة ورفع رأسه يتنهد .. تنهيدة عاشق لم يستطع ان يتنفس بعيد عن معشوقته ..
ثم نظر لرأفت .. تلاقت أعينهما وهذه المرة لم تكن نظرات متحدية بل نظرات أب وزوج يريدان تحويل حياة فتاتتهما لنعيم بعد الجحيم الذي تعرضت له .
_______________________________________